services-detail-img

المدينة المنورة

مقالة عن مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم


المدينة التي تهفو لها القلوب

طارت لها أفئدة المحبين، وحنّت لها قلوب المخبتين، وبكت شوقاً إليها عيون المشتاقين، كيف لا وهذا من شؤون الحب، ألم يقل الشاعر:

أمرُّ على الجدار جدارِ ليلى

أقبُّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبُّ الديار شغفنَ قلبي

ولكنْ حبُّ من سكن الديارا

فالمحب يتنسم روح الحياة من ديار حبيبه، بل ويرى ديار الحبيب دياره، ومسكنه قراره، ويملي عينيه بالديار، وتطيب نفسه برؤية الآثار، ولله درُّ الإمام ابن الجزري حين غيّر الشطر الأخير من البيت السابق فقال:

وما حبُّ الديار ملأن قلبي

ولكن حبُّ ساكنها لعمري

منازلُ حلَّها قدم المُفدّى

رسول الله محبوي وذخري

فأظهر حقيقة الديار وحقيقة الحب، سالكاً سبيل العلماء العظماء في بيان عظمة تلك الديار، وفخامة تلك الآثار، بل إن المحب البوصيري أبدع في همزيته وهو يشير أنها هي المنازل على الحقيقة، وهي الديار على التخصيص، فجعل يعد لنا المواضع باتجاه الديار المقدسة، على شاكلة من عدوا في السماء منازل القمر، مترنماً متشوقاً حتى ختمها بقوله:

هذه عِدّةُ المنازل لا ما

عُدَّ فيها السمَّاكُ والعَوّاءُ

إنها – وايم الله – عدة المنازل، ومقصد المحب والآمل، وفيها حقيقة مجلى الأنوار، ومنازل الأقمار، ومهابط الأنوار.

أيُّ نُورٍ وأي نَورٍ شهدنا

يوم أبدتْ لنا القباب قُباءُ

ثم يصف لنا شأن المحبين الذين ينسون تعبهم إذ وصلوا مقصدهم وقضوا أربهم:

وكأنَّ الزوَّارَ ما مسَّتِ البأساءُ

منهم خَلقاً ولا الضرّاءُ (م)

إنها المدينة التي ارتبطت بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتغيّر اسمها وحالُها، وعظُم قدرها وشأنها، فأصبحتْ حاضنة الأنوار ومنتقى الأبرار، وأصبح لها مزايا مخصوصة، ومكانة منصوصة.

فحسبُك أن تعلَم أنها قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانتْ بين أهلها أنفسهم حروبٌ ومَقاتِل، ثم صارتْ مضرب المثل في الإخاء بين المهاجرين الذين قدموا من خارجها وبين الأنصار أهلِها وسكانها.

وكان اسمُها يثرب فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إطلاقه، وسماها المدينة وطيبة وطابة، فإذا أطلقت اسم (المدينة) في الكون كله وبين المدن كلها، فما ثَمَّ إلا هي، مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كثرت أسماؤها الواردة في الكتاب والسنة أو المستقاة منهما: فهي الدار والإيمان ومأرز الإيمان، والمُحبوبة والمسكينة، ومُدخَل صدقٍ وأرض الله وأرض الهجرة، وأكّالة البلدان، والبارّة والمبرّةُ، وبيت النبي صلى الله عليه وسلم، والمحفوفة والمختارة والمرحومة، وقد زاد العلماء على هذه الأسماء كثيراً، وما هذا إلا لعظم مكانة هذه المدينة التي تهفو لها القلوب.

وكانتْ قبل النبي صلى الله عليه وسلم فيها حُمَّى تصيبُ من دخَلَها، فأصبحتْ مدينة الهناء والصفاء، بل أصبح غُبارُها دواءً، وتُرابُها شفاءً، فقد ورد في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قفل مع الصحابة رضي الله عنهم من إحدى الغزوات نحو المدينة، فهبَّ الهواء مع غبار المدينة، فأزال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللثام عن وجهه الشريف وقال: (والذي نفسي بيده، إن في غبارها شفاء من كل داء)، وقد ورد إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ تربتها مؤمنة، وكذلك حديث الاستشفاء بتربة الصعيب من أرض المدينة النبوية.

ولمكانتها عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحرك دابته مسرعاً إذا اقترب من المدينة، فكيف لا يتوق لها المحبون، ويسرع لها الوالهون؟!

وليس من العجيب أن ترى كتابة السلف في بيان فضلها، وتخصيص الكتب في مناقبها وشأنها، فمنذ بدأ تدوين الحديث الشريف، كانت للمدينة أجزاء في تلك الكتب، ومنذ بدأ تخصيص كتب المناقب والسير، كان للمدينة القِدح المعلى.

فقد ألّفَ ابن زبالة في القرن الثاني الهجري كتاب أخبار المدينة، وهو تأليف متقدم من وجوه عديدة، ويدلُّ على عظيم اهتمام علماء السلف بالمدينة النبوية.

وكان بعد كتاب ابن زبالة ثمانية عشر مؤلفاً وصلتْنا عناوينُهم في القرن الثالث الهجري فقط.

ثم درج على التوسع في بيان فضل المدينة وأخبارها علماء المسلمين من بعدهم إلى وقتنا الحالي، ومن تلك التآليف التي اشتهرتْ:

التحفة اللطيفة في أخبار المدينة الشريفة لشمس الدين السخاوي (ت 902 هـ)

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى صلى الله عليه وسلم، للعلامة السمهودي (ت 911 هـ)

ومن اللطائف في هذين المؤلَّفين أن كاتبيهما مصريا المولد، مدنيّا الوفاة، فكلاهما جاور في المدينة، وبينهما رحم في العلم، فقد قرأ السمهودي بعض العلم على السخاوي.

ومن ذلك في عصرنا كتاب فضائل المدينة المنورة للشيخ خليل ملا خاطر دفين البقيع رحمه الله.

والعناية في هذا الباب عند العلماء أكثر من أن تُحصر، وأوسع من أن تُنشر، ولكننا وقفنا على مقدار يسير كان ضرباً للمثل، وتشويقاً لجمال تلك الحُلل.

واقتداء بركب العلماء الأعلام، وتشرُّفاً للدخول بهذا النظام، فقد كان لدى مؤسسة علم من البداية عناية خاصة بمؤلفات المدينة المنورة، فإننا في مؤسسة علم قد وصلنا في جمعنا للمخطوطات لمليوني مخطوط من مخطوطات التراث العربي والإسلامي، جعلنا من ضمنها قاعدة بيانات خاصة بالمدينة المنورة، نجمع فيها منذ القرون الأولى الكتب التي ورد في فضلها وأخبارها، والشعر الذي نظم في مدحها، والمقالات المعاصرة التي كتبت حولها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر:

فإنه يوجد في مؤسسة علم (220) مئتان وعشرون مخطوطاً لكتاب وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى صلى الله عليه وسلم، موزعة بين بلدان متنوعة جغرافياً، كما يوجد ضمن قاعدة بيانات المدينة المنورة في مؤسسة علم (7500) سبعة آلاف وخمسمائة بحثاً معاصراً مرتبطاً بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم.

بالإضافة لاحتفاظنا بعدد كبير من المجلات المعاصرة التي تحتوي على مقالات متنوعة في فضل طيبة الغراء.

وفي الختام فإن الحديث عن هذه المدينة الحبيبة لا ينتهي، ولكننا تشرفنا بذكر هذه الوقفات، والتعريف ببعض المؤلفات، راجين المولى سبحانه وتعالى ألا يقطعنا عن تلك الديار، وألا يحرمنا من جمال تلك الآثار، والحمد لله رب العالمين.