services-detail-img

جغرافيا المخطوط العربي

جغرافيا المخطوط العربي (2) إعداد / عبد العاطي محيي الشرقاوي ( أبو يعقوب الأزهري ) رئيس مجلس إدارة مؤسسة علم لإحياء التراث و الخدمات الرقمية


رئيس مجلس إدارة مؤسسة علم لإحياء التراث و الخدمات الرقمية 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وبعد:

فهذا استكمال حول موضوع ” جغرافيا المخطوط العربي ”

الفصل الثاني: رحلة المخطوطات جغرافيا إلى أنحاء العالم (المجوعات القديمة وأين آل أمرها) وفيه مباحث:

المبحث الأول: صور من رحلة المجموعة الواحدة لعدد من بلدان العالم.

المبحث الثاني: صور من رحلة المخطوطات(المجموعة) التي تملكها عالم وكانت تحت يده يوماً ما، ثم تفرقت.

المبحث الثالث: صور من رحلة المخطوطات(المجموعة) التي كتبها عالم واحد، ثم تفرقت في مدن مختلفة.

المبحث الرابع: هجرة المجموعة كاملة عن موقعها التي كانت تعيش فيه.

المبحث الخامس: نموذج مشرف

ولضيق المقام سأعرض أمثلة وجيزة لكل مثال للتطبيق على الأمور والقواعد التي مرَّ ذكرها:

المبحث الأول: صُور من رحلة المجموعة الواحدة لعدد من بلدان العالم.

مدخل: –

إن من أول خزانات الكتب الخاصة التي أنشئت في الإسلام كانت في دمشق، وهي مكتبة خالد بن الوليد بن يزيد بن معاوية (ت 85 هــ/ 704م)، واشتغل الخلفاء بترجمة الكتب اليونانية، وأنشئت الكثير من المكتبات العامة، ومن المكتبات الخاصة مكتبة الفارابي (المتوفى 339هـ/950م)، ومكتبة سيف الدولة الحمداني (المتوفى 356 هــ/966م) بحلب، كما وجد في المعرة مكتبة خاصة، هي مكتبة أبي العلاء المعري (المتوفى 449هــ/1057م)، ومكتبة في حيفا أنشأها قاضي طرابلس أسعد بن أبي روح أبو الفضل، الذي جمع فيها أزيد من أربعة آلاف مجلدة.

وأنشأ الملك العادل نور الدين، أبو القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر التركي (ت569هـ )  مكتبةً عظيمة وحض على طلب العلم فبنى بيوتا للعلم  ويذكر عنه أنه كان كثير المطالعة، يكتب خطا جميلا، فاتخذ النساخة عملًا يتقوت منه وبلغ في تيسيره لأسباب التعليم أن أوقف كتبا كثيرة ، ولم يكتف بذلك بل خصص لها الحفظة من نقلتها وأربابها ، وذكر ابن عساكر وكان معاصراً لنور الدين بأنه كان  “حسن الخط والبنان متأت لمعرفة العلوم بالفهم والبيان كثير لمطالعتها مائل إلى نقلها مواظب حريص على تحصيل الكتب الصحاح والسنن مقتن لها بأوفر الأعواض والثمن، كثير المطالعة للعلوم الدينية” ، وهذا يعطينا تصورا واضحا لموضوعات مكتبة هذا الملك، والتي لم تتجاوز العلوم الدينية، من حديث وفقه ونحو ذلك.

إن أغلب المكتبات القديمة التي كانت في الدولة الأموية والدولة العباسية في العصر العباسي الأول والثاني، ودولة السلاجقة والدولة الطولونية والإخشيدية والفاطمية والدولة الأيوبية ودولة المماليك بالقاهرة، ودولة الأغالبة ودولة الأدارسة ودولة الرستمية ودولة بني مدرار ودولة المرابطين ودولة الموحدين في المغرب والأندلس والدولة البربرية ودول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في الأندلس بنو نصر والدولة العثمانية

ففي كل دولة من هذه الدول، وفي كثير من مدنها مكتبات خاصة وعامة

فكل مدينة في حواضر الإسلام لم تكن تخلوا من الجوامع والمكتبات والخنقاوات والأربطة.

ففي مكة والمدينة، والقاهرة، والأسكندرية، وبغداد، والكوفة، والبصرة، واليمن، وبلاد الشام وخراسان، ونيسابور[7]، والري، وهمذان، وقزوين، وجرجان، وبوشنج وطوس، ومرو، وبلخ، وبخارى، وسمرقند، وشاش، وخوارزم وشيراز، وكرمان، وسجستان والأهواز، وتستَر، ودامغان، وسمنان، وبسطام وسائر مدن خراسان، وقهستان، وزنجان، وأبهر، وهراه، وقرطبة، وإشبيلية، وغرناطة، وبلنسية، ومالقة، وإقليم المغرب، وإفريقية، والقيروان، وبجاية، وتلمسان، وفاس ومراكش، والجزيرة ومن أكبر مدائنها (منبج وبالس والرها) وحران، والرقة، وغيرهم مئات بل آلاف المكتبات والمدارس وفي كل مدرسة مكتبة صغيرة كانت أو كبيرة.

وكثير من مكتبات هذه المدن القديمة والمدارس العتيقة، ضاعت جغرافياتها وتفرقت في أنحاء العالم، وبقي القليل من هذه المكتبات القديمة موجودة إلى الآن ولكنها فقدت الكثير مما كان فيها، كالحرم المكي، وجامع القيروان والقرويين والأزهر وغيرها من المكتبات القديمة التي هُجِّر الكثير من مخطوطاتها القديمة .

بيان ما كان بالبلاد الإسلامية من مخطوطات ومكتبات ولم يعد بها أثر، وانتقلت إلى أماكن مختلفة:

لا يسع المقام لسرد الكثير عن المكتبات القديمة وتاريخها، وإن كان له تعلق بالموضوع (جغرافيا المخطوط وتنقلها في أنحاء المعمورة) لضيق المقام، وطول الموضوع بطول هذه القرون السابقة، ولكني أستعين الله في بيان لمحات سريعة تبين قدر الضائع من التراث والمخبأ، وقدر التفرق جغرافيا بالعالم: –

لقد كان بمكة المكرمة، وكذا بالمدينة المنورة وسائر الجزيرة، وببلاد العراق، وببلاد مصر والشام، وبلاد ما وراء النهر، والأندلس، وكل مكان وصله الإسلام، العديد من المكتبات والمدارس، والأربطة، والخانقاوات الممتلئة بخزائن الكتب والنوادر، ضاع الكثير منها، وبقي القليل، وهذا القليل تفرق أكثره في بلدان العالم

وقد كتب في تاريخ المكتبات بالمغرب، العلامة الشيخ محمد عبد الحي الكتاني، وكذلك أستاذنا البارع الدكتور أحمد شوقي بنبين سفراً نفيساً عن تاريخ الخزائن المغربية، وضم إليه مبحثا نفيساً في الباب الثاني في الكلام على وقف الكتب بالمغرب

وقد كان بالقاهرة المعمورة حرسها الله وبلاد المسلمين جوامع ومدارس وأربطة وخنقاوات وزوايا، وقد أورد الإمام المقريزي في الخطط كثيراًمنها في زمنه وقبل ذلك ولا تخلوا جميعها من مكتبات، تتفاوت في القلة والكثرة في عدد ما فيها من كتب ومن نوادر

فمن جوامعها (الجامع العتيق، والعسكر، وابن طولون، والحاكم والمقياس، والأقمر، والظافر، والأفرم ودير البطن، والظاهر بيبرس، وابن اللبان، والسيبرسي، والجامع الجديد، والمشهد المنسوب لسيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما، والأمير حسن، والماس، وقوصون، وأصلم، وبشتاك، وآق سنقر، والفخر، ونائب الكرك، والست حدق، وابن عبد الظاهر، والقلعة، والإسماعيلي، والفخري، والباسطي، وشيخون، والأشرفي، وابن التركماني، والأزهر …….)

ومن مدارسها (كالصرغتمشية، والناصرية، والقمحية، ويازكوج، وابن الأرسوفي، والفائزي، والعادلية، والسيفية، وابن رشيق، والخروبية، والفارقانية، والصالحية، والكاملية، والصيرمية، والقوصية، والمهذبية، والفاضلية، والمسرورية، والشريفية، والمنصورية، والحجازية، والحسامية، والمنكوتمرية، والقراسنقرية، والغزنوية، والبقرية، والبيدرية، والجمالية، والفارسية، والسابقية، والقيسرانية، والزمامية، وتربة أم الصالح، والمحمودية، وشيخون، والمهمندراية، والبشيرية، والناصرية بالقرافة، وأينال اليوسفي، والأمير جمال الأستادار، ……………)

ومن الخانقاوات التي كان لها دور بارز بالقاهرة في التدريس وتداول النسخ النفيسة (خانقاة سعيد السعداء (الصلاحية بعد ذلك، أو دويرة الصوفية) وركن الدين بيبرس، والجمالية، والظاهرية، والشرابية، والمهمندارية، وبشتاك، والبندارقية، وشيخو، والجاولية، وسرياقوس، أرسلان، الخروبية، ……….) وغيرها الكثير

وجميعها عامرة بالكتب ونوادر النسخ كلٌ بحسبه لأن الكتاب هو زاد الدارسين، وقد وجدت بالاستقراء أن الخنقاوات (وهي المكان المعدُّ للعبادة عند السادة الصوفية) رغم أنها للعبادة والخلوة، ولكن وجدت أغلب ما يقرأ فيها هو كتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب الفقه والسلوك، أي: كانت مكاناً للكتب والقراءة والتزود من العلم النافع وليست للعبادة فقط.

فهذه المكتبات كلها كانت جغرافيتها بالقاهرة المحروسة ولكنها أمست مشتتة في العالم، للأسباب التي ذكرنا، وقد رأيت كثيراً من نسخ الخزانة المحمودية بالقاهرة التي كانت تحوي النوادر، وجدت الكثير منها في تركيا وخصوصاً مكتبة آيا صوفيا، ومن أشهر ذلك نسخة (تاريخ الإسلام للذهبي التي بخطه) وقرأها عليه الصلاح الصفدي، وفتاه طيدي بن عبد الله الرومي، وطالعها السخاوي وجماعة من العلماء والمؤرخين، منهم عبد الرحمن بن محمد البعلي وإبراهيم بن يونس البعلبكي الشافعي، ويوسف الكرماني، ومحمد بن عبد القاهر بن عبد الرحمن بن الحسن بن الشهرزوري الموصلي ، والبدر البشتكي.

وكذلك وجدت من خزانة شيخو بمدرسته بالقاهرة (وقد زرتها وأحييت القراءة فيها) بعض النسخ النفيسة في مكتبات مختلفة في العالم من أهمها المكتبة الوطنية بإسرائيل، ومن ذلك نسخة نفيسة من صحيح الإمام مسلم بن الحجاج-رحمه الله-

وأكتفي بهذا الأنموذج للمجموعات القديمة للمدارس والخزائن الكبرى التي تفرقت في مكتبات العالم، وما يقال عن القاهرة يقال عن غيرها، فإن المسلمين لما كانوا أهل عزة وكرامة كُنْت تَخاَلُ الحياة عندهم كلها علم وإبداع واجتهاد، فهذه دمشق كان فيها عشرات بل مئات المدارس، والمكتبات، والأربطة ،،،،،، وهذا مثال ببعض أسماء مدارس الحديث فقط بالشام (سوريا) حرسها الله ونجاها من الطغاة والمفسدين والمتآمرين.

  • دار الحديث النورية الكبرى: 566 هـ
  • دار الحديث الفاضلية: 593 هـ
  • دار الحديث الشقيشقية: 656 هـ
  • دار الحديث العرويّة:617 هـ
  • دار الحديث الأشرفية الجوّانية:630 هـ
  • دار الحديث الأشرفية البرّانية: 634 هـ
  • دار الحديث الكروسية: 641هـ
  • دار الحديث القوصيّة: 653 هـ
  • دار الحديث الناصرية:653 هـ
  • دار الحديث السكرية: 674 هـ
  • دار الحديث السامرية:696 هـ
  • دار الحديث النفيسية: 696هـ
  • دار الحديث الدوادرية: 698 هـ
  • دار الحديث الحمصية: 700 هـ
  • دار الحديث القلانسية: 720 هـ
  • دار الحديث البهائية: 722 هـ
  • دار الحديث النظامية: 850 هـ

وحلب وما أدراك ما حلب؟!، كانت تعجُّ بالمكتبات والمدارس والحركة العلمية المبكرة، وقد وجدت لمخطوطات حلب الوقفية، والتي نسخت فيها والتي كانت لعلمائها الشيء الكثير الذي ملأ العالم كذلك

ولكن يلحظ الدارس أن كثيراً من مكتبات دمشق كالعمرية والضيائية لازال بها بعض الشيئ من النوادر القديمة التي كانت بها، ولكن لم تسلم من التهجير كذلك

وهذا مجموع به رباعيات النسائي وبعض الرسائل الحديثية كان محفوظا بالمدرسة العمرية التي كانت بالصالحية، وتغيرت جُغْرافية النسخة إلى مكان بعيد وهي إيرلندا حيث تنعم بالرقود في مكتبة تجستربتي، ولما زرت مكتبة المخطوطات بجامعة ليدن وبها سبعة آلاف مجلد مخطوط عربي، وقلبت نسخة غريب أبي عبيد التي هي من أقدم النصوص العربية غير المصحفية في العالم(252هـ) أحسست أنها تشتكي لي غربتها هناك حيث لا يقرأها أحدٌ، وهذا الإحساس أجده في كل المكتبات الأوروبية وبريطانيا، وبلاد الغرب، أشعر أنها وإن كانت تنعم بجو بارد هادئ إلا أنها تشعر بغربة شديدة، وتزداد الغربة إذا كانت هذه النسخة كانت  تُقْرَأُ لزمن طويل في مدرسة من المدارس التي كانت تعلم وتقرأ النسخ كل يوم، ولكن رد عقلي على قلبي قائلاً :بل ومخطوطات بلادك كذلك قد سجنت في خزائن، وما عادت تقرأ كذلك، فقلت: الحمد لله على كل حال.

وبالاستقراء فالمكتبة الوطنية ببرلين (مكتبة الدولة) صاحبة النصيب الأكبر مما سرب من مخطوطات سوريا عموما، ومكتبتها العمرية خصوصاً، وإن كان هاجر من العمرية مجموعة إلى المدينة المنورة، وغيرها، ولكن برلين خصوصاً، وألمانيا عموماً سُرِّب إليها مكتبات كاملة من سوريا، وخبر الرفاعية بليبزك مشهور معروف، وقد شاهدت بنفسي أثناء زيارتي لمكتبة ميونخ بعض ذلك.

***

المبحث الثاني: صور من رحلة المخطوطات التي تملكها عالم وكانت تحت يده يوماً ما، ثم تفرقت.

وأضرب مثالا بذلك، والأمثلة كثيرة بفضل الله لعالم حنفي من أصحاب المقريزي، وهو محمد بن محمد بن محمد بن السابق الحنفي رحمه الله.

قال السخاوي: الإمام محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمود الجمال وربما كان يقال له قديما: ناصر الدين أبو عبد الله بن الأمير ناصر الدين أبي عبد الله بن القاضي ناصر الدين بن القاضي بدر الدين أبي عبد الله بن النور أبي الثناء الحموي المعري المولد القاهري الوفاة الحنفي…. ويعرف كسلفه بابن السابق. (ولد 811-وتوفي 877هـ).

قال السخاوي:” ولد في مستهل ذي القعدة سنة إحدى عشرة وثمانمائة بالمعرة وانتقل منها في صغره إلى حماة فنشأ بها وقرأ القرآن وقطعة من المختار وغالب المجمع وجميع منظومة ابن وهبان وتنقيح صدر الشريعة في الأصول والحاجبية في النحو والخزرجية في العروض وأخذ في الفقه والصرف والعربية وغيرها عن البدر حسن الهندي، وفي النحو أيضا وغيره من الفنون الأدبية عن النور بن خطيب الدهشة الشافعي، ولازم التقي بن حجة وكتب عنه من نظمه وفوائده بل وعن عمه الصلاح خليل والشمس الوراق الحنبلي أشياء من نظم وغيره، وقرأ البخاري على الشمس بن الأشقر والشفا على الشمس الفرياني ثم ارتحل إلى القاهرة فأخذ في اجتيازه بدمشق عن ابن ناصر الدين وقرأ على شيخنا الصحيح وسمع على الزين الزركشي صحيح مسلم وعلى عائشة الحنبلية الغيلانيات وعلى قريبتها فاطمة والعز بن الفرات كلاهما في سنن البيهقي وعلى البدر حسين البوصيري والتقي المقريزي والشمس الصفدي والكمال ابن البارزي وابن يعقوب والزين عبد الرحيم المناوي في آخرين ولكنه لم يمعن في الطلب، ووصفه ابن ناصر الدين بالعالم الفاضل البارع الأصيل وشيخنا بالأمير الفاضل المشتغل المحصل الأوحد الماهر، ومرة بالفاضل البارع الأصيل الأوحد بارك الله في حياته وبلغه من الدرجات العالية أقصى غاياته، واشتغل فيها أيضا بالعلم فقرأ على ابن الديري في الفقه وقال إنها قراءة تفهم وتدبر وسؤال عن مشكل المسائل ومعضلها واجتهاد في تحصيل الوقوف على مداركها ومآخذها ولازمه كثيرا، وكذا لازم ابن الهمام حتى أخذ عنه بحثا أكثر من ربع الهداية وغيره، وأجاز له جماعة ممن لم أعلمه سمع منهم كالبساطي وناصر الدين الفاقوسي وابن خطيب الناصرية وابن زهرة الطرابلسي وابن موسى اللقاني ونشوان الحنبلية. وحج غير مرة وجاور أيضا مرارا وقرأ في بعضها على التقي بن فهد وسمع على الشرف المراغي وسافر إلى حلب وغيرها وزار بيت المقدس وأقام بالقاهرة في كنف الكمال بن البارزي لقرابة بينهما بَيَّنْتُها في التاريخ الكبير مقتصرا عليه حتى صار مع القرابة المشار إليها من أخصائه واستغنى بذلك مع ما كان له من الجهات في بلده بحيث اقتنى من نفائس الكتب ما خدم بعضه بالحواشي والفوائد المتينة، وكان زائد الضنة بها لا يفارقها غالبا حتى في أسفاره …… ونعم الرجل كان لطف عشرة وحسن محاضرة ومزيد تودد وتواضع مع أحبابه ورياسة وكياسة وكرم وفتوة وكثرة أدب وبهجة ومتانة لما يحفظه من التاريخ والأدب الذي هو جل معارفه، تزوج كثيرا بحيث أهاب التصريح بالعدد الذي أعلمني به ومع ذلك فلم يخلف ولدا ذكرا. وولي بأخرة خزانة الكتب بالظاهرية القديمة لتكون كالحاصل له ثم سافر إثر ذلك إلى بلده فأقام دون الشهرين ورجع فوصل القاهرة في رجب وهو متوعك فأقام كذلك يسيرا وطلع له دمل فعولج بالبط وغيره، وآل أمره إلى أن انتشر داخل جوفه حتى مات به في ليلة الخميس سابع رمضان سنة سبع وسبعين وصلي عليه من الغد بعد صلاة الجمعة في محفل عظيم ودفن بتربة الزيني بن مزهر وذلك بعد أن وقف من كتبه قبل بمدة أشياء ثم قوم باقيها بنحو أربعمائة دينار رحمه الله وإيانا.

وعند البحث والتتبع لمكتبة هذا العالم وقفت له على مجموعة كبيرة كان قد تملكها أذكر بعضها هنا: –

وقبل الكلام عن تملكاته وتوزع مخطوطاته جغرافيا في العالم، أذكر ملاحظة على طريقته في التملك وجدتها واضحة على طول الخط.

وهي أن عادته في كتابة تملكه على الكتاب أنه يذكر اسم اليوم وتاريخ اليوم والشهر والسنة كما سنراه واضحاً في الأمثلة التالية: –

  • تملك رحمه الله نسخة من الرسالة القشيرية، وقابلها على نسخة مؤلفها وهي بمكتبة راغب باشا (660)، وكان تملكها سنة (860هـ) بمدينة حماة، ومقابلتها سنة (864هـ)

واتَّفقَ الفراغُ من إتمام هذه النسخة نهار الأربعاء، الثاني عشر من شهور ربيع الأول، سنة ست وثمانين وسبعمائة (786 هـ)من الهجرة النبوية على يد ناسخها أحمد بن محمد بن عبد الله النظامي الحنفي خادم الفقراء بزاوية المسجد الأقصى الشريف بالقدس الشريف

وهذه النسخة من الرسالة نقلت من نسخة عليها إجازة الشيخ القشيري مؤلف الرسالة، ويوجد في أوله فهرس في ورقة، وتوجد في أوله فوائد في ثلاث أوراق، ويوجد في آخره ما نصُّه: بلغ مُقابلةً، قُوبلت هذه النسخة على نسخة عليها خط المصنف، على يد مالكها محمد بن محمد بن محمد بن السابق الحنفي الحموي …

وكان الفراغ من المقابلة المذكورة في يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وثمانمائة(864هـ)، بالقاهرة المعزيّة، حماها الله تعالى عن الآفات والنكبات، بمحمد وآله.

وعلى النسخة تملكات أخرى لأحمد بن محمد بن عبد الله الخطيب الشهير بابن الشيخ بدر

وتملك أحمد بن محمد الخطيب سنة 824 هـ

وتملك محمد بن محمد بن السابق الحنفي بحماه المحروسة سنة 860 هـ، وكان عمره تسعاً وأربعين سنة.

وتملك شمس الدين الحموي في أواخر صفر سنة 845 هـ

وتملك يحيى بن حجي الشافعي سنة 878 هـ

وتملك قايتباي

وتملك شيخ الإِسْلام أبي الخير أحمد العثماني

  • كتاب لزوم ما لايلزم قبل حرف الروي من شعر أبي العلاء، رواية الخطيب التبريزي، وكان التملك يوم الخميس 27-جمادى الأخرى سنة (873هـ) بالقاهرة المحروسة أي: قبل وفاته رحمه الله بأربع سنوات.

وهذه النسخة من نوادر نسخ الكتاب بل من نوادر المخطوطات بمكتبة ليدن، وقد تشرفت بملامستها وتقليبها بيدي أثناء زيارتي الثانية لجامعة ليدن.

وهذه النسخة نسخة نفيسة قرأها الإمام أبو منصور الجواليقي شيخ الإمام ابن الجوزي على شيخه العلامة الخطيب التبريزي، وكانت القراءة سنة (496هـ) وكان عمر الإمام أبي منصور ثلاثين سنة، بمدينة السلام بغداد.

ثم قُرِأت عليه نفس النسخة بعد خمس وعشرين سنة، قرأها عليه تلميذه ابن الخشاب، وكانت القراءة سنة (519هـ)

وهي نسخة نفيسة جديرة بالدراسة والبحث.

وصاحب النسخة هو الإمام الجواليقي

لأنه قال بعد كتابة اسم الكتاب والرواية

  • وهذا تَمَلُّكُه على نسخة نفيسة من تاريخ حلب لابن العديم بخط المؤلف، ومن العجيب أن هذه النسخة تفرقت بين مكتبتين بإسطنبول وهي مكتبة آيا صوفيا 3056، ومكتبة فيض الله أفندي1404، فأما نسخة آيا صوفيا 3056، وكان التملك بالقاهرة يوم الأربعاء 19-ربيع الآخر من سنة (856هـ)، بالقاهرة المحروسة

وساق سند روايته لتاريخ ابن العديم، وعلى النسخة تملك (محمد بن أحمد بن أينال العلائي الحنفي) وفي آخر هذه الورقة (أنهاه مطالعة ونسخاً داعياً لمالكه بطول البقاء ودوام الارتقاء محمد المدعو عمر ابن محمد بن فهد الهاشمي المكي بها سنة 847)

وكان ابن العديم ووالده صاحبا خزانة عظيمة  فقد اقتنى خزانة كتب مهمة، ضمت بين مجموعاتها نسخة من كتاب المغرب في حلي المغرب لابن سعيد التي تحدث فيها عن مصر والمغرب والأندلس، وتحتفظ ببقايا منها دار الكتب والوثائق المصرية بالقاهرة كتبها ابن سعيد بخطه، وسجل كتابته لها على صفحة العنوان في كل سفر من أسفارها الباقية، حيث قيد اسم المهدي إليه ومكان كتابتها وتاريخ الفراغ من كل سفر، فجاء عليها “نسخه بخطه، برسم الخزانة الجليلة الصاحبية الكمالية عمرها الله بدوام مالكها سيد الأصحاب رئيس صدور الشام علم العلماء الصاحب الكبير كمال الدين بن أبي القاسم بن أبي جرادة العقيلي خلد الله إحسانه وعطر شكره زمانه، مكمل تصنيفه علي بن موسى بن محمد بن عبد الله بن سعيد” وتقع كل تواريخ الفراغ من النسخ بين سنتي 645-647هـ

فهذه نسخة حلبية، ثم قاهرية ثم مكية ثم آلت إلى تركيا الآن (ولعلها كانت في ملك محمد بن أحمد بن أينال العلائي الحنفي، ثم آلت إلى صاحبنا ثم سافر بها إلى مكة فنسخها ابن فهد، وسافر بها حلب ثم رجع إلى القاهرة، ومنها إلى إسطنبول، والله أعلم)

والجزء الثاني من النسخة ترك أخاه هذا (نسخة آياصوفيا) ويعيش في مكان آخر ولكن بنفس المدينة إستانبول بمكتبة فيض الله أفندي، وعليه نفس التملك الذي على الجزء الأول، وتملكه بنفس اليوم والذي تملك فيه الجزء الأول (أي: رُزق بالمجلدين في وقت واحد) بالقاهرة يوم الأربعاء 19-ربيع الآخر من سنة (856هـ)، بالقاهرة المحروسة، ويحتمل وجود بقية الكتاب بإستانبول

  • وهذا تملك آخر على كتاب تقويم البلدان العربية الجغرافيا إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب الملك أبو الفداء، نسخة آيا صوفيا(2597) وكان ذلك بالقاهرة المحروسة يوم الخميس 15-رمضان لسنة (875هـ)

وعليه تملك آخر إبراهيم بن محمد يُعرف بابن جاقِر الموقت بجامع الجاوِلي بغزة المحروسة، وملكه في شهر رجب الفرد لسنة 828 هـ

وتملكه حسن الميقاتي

جغرافيا المخطوط:

فهذه النسخة نسخت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة في حلب على الأقرب، ثم انتقلت إلى القاهرة ثم انتقلت إلى غزة ثم انتقلت إلى إستانبول بمكتبة آيا صوفيا

  • وهذا تملك آخر على نسخة من الهداية بمكتبة السليمانية(640) لابن السابق بالقاهرة المحروسة سنة (839هـ) وخطه مختلف عن الخطوط السابقة، وكان عمره تسعاً وعشرين سنة.

فمعرفة مآل كتاب العالم أو مكتبته جغرافيا، مهم وشاق.

ومثل هذا يقع بكثرة (أن يكون الكتاب بخط مؤلفه كاملاً، يوما ما ثم في مكان وجغرافية معلومة ومشهورة، ثم تتفرق جغرافيته إلى مكتبة أو مكتبتين أو خمسة أو أكثر)، وهو شيء مؤلم وعجيب ولكنه مستملح، خصوصاً إذا يسر الله جمعه وأعيد بناء المجموعة مرة أخرى

ومن ذلك كتاب عيون التواريخ الذي بخط المؤلف، تفرقت جغرافيته في أنحاء العالم

وكذلك اختصار الذهبي لسنن البيهقي المكتوب بخطه الرائق الذي يشبه خطوط المحدثين، وهو محفوظ في مجلدين، الأول بجامعة الملك سعود، والآخر بدار الكتب)

وكفتح الباري الذي نسخه الأخصاصي (مدحه السخاوي وذكر أنه كتب شرح البخاري لشيخه، وكان رجلاً صالحاً) كاملا بخطه ثم تفرق إلى أربع مكتبات.

ومن صور ذلك أن يكون الكتاب ليس بخط مؤلفه إنما بخط عالم أو ناسخ واحد مكتملاً في مكتبة ثم يتفرق كنسخة الأغاني.

أو يكون حاضراً كاملاً في سماع في مكتبة لمدرسة وقفية ثم يتفرق (وهذا يختلف عن الكتاب الذي في جزء واحد ثم يقرأ ويرحل بعد ذلك، فهذه هي الصورة الطبيعية له لأنه يحمل في الرحلة للسماع على الشيوخ)

نماذج من مكتبات العلماء النفيسة وأين آلت: –

مكتبة أبي عبد الله البندنيهي:

ومن الذين حصلوا كتباً نفيسة محمد بن أبي السعادات أبو عبد الله البندهي المسعودي (ت584هـ) شارح المقامات، هو من درَّس الملك الأفضل أبا الحسن علي ابن السلطان صلاح الدين وانتهت إليه الرياسة في علم الحديث، والفقه، والأدب، وبذل جهدا غير عادي في دراسة وفهم المقامات الحريرية؛ فشرحها في خمس مجلدات كبار، وكان محدثا صوفيا جوالا ([1]). حصل بترحاله كتبا نفيسة ([2])، وغريبة استعان بها في شرحه للمقامات.

وقيل: لما فتح السلطان صلاح الدين مدينة حلب (579هـ/1183م) نزل المسعودي جامع حلب، وجلس في خزانة وقفه وراح يختار من مخطوطاتها ويعبئها في عدل ([3]) دون أن يوقفه أحد فتكونت لديه مكتبة عظيمة بالكم والنوع. وقفها آخر المطاف على الخانقاه السميساطية التي كان يسكنها في دمشق ([4]).

مكتبة تاج الدين الكندي بدمشق (ت613هـ)

هو أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد الكندي الملقب تاج الدين، البغدادي المولد والمنشأ، الدمشقي الدار والوفاة، المقرئ النحوي الأديب   ، كان كبير المنزلة والحظوة عند الملوك والأمراء والأعيان، وازدحم على بابه شيوخ العلم، وطلبه أولاد الملوك، وجمع أصول الكتب  ([5]) ، فقد اقتنى من خزائن كتب الديار المصرية كل نفيس وعاد بها إلى الشام  ([6]) ؛ فتكونت لديه مكتبة نفيسة منتقاة بعناية، أتت في خزانة كبيرة بـ 761 مجلدا في علوم القرآن، والفقه، واللغة، والحديث، والشعر، والنحو، والتصريف، وعلوم الأوائل من طب وغيره  ([7]) . أوقفها على فتاه ياقوت الذي أوقف قسما كبيرًا منها في مقصورة ابن سنان الحلبية، في الزاوية الشمالية الشرقية من الجامع الأموي بدمشق  ([8])

مكتبة الملك المنصور بحماة  ( (ت617هـ/ 1220م):

تسلم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ملك حماة بعد وفاة والده (المتوفى 587 هــ/ 1191م) فهم لتعمير البلد وتحصينها من الفرنج الذين كانت لهم معه وقعات كثيرة انتصر فيها  ([9]) ، وإلى جانب شجاعته في الميدان كان عالمًا مصنفا في الأدب، والتاريخ  ([10]) ، كثير المطالعة، والبحث  ([11]) . أحب العلماء، وقربهم؛ فقدم عليه العالم الفقيه سيف الدين علي الآمدي (المتوفى 631هـ/1233م)  ، وكان مجلسه قبلة الفضلاء، والحكماء، وكانت عنده جماعة منهم لهم عليه الجراية  ([12]) ، وأظهر اعتناءه بجمع الكتب، حتى استقر عنده منها الكثير  ([13]) ، فيقول الذهبي “وجمع في خزانته من الكتب ما لا مزيد عليه”  ([14]) .

مكتبة الملك المعظم عيسى بن الملك العادل بدمشق (ت624هـ)

يعد هذا الملك من طلاب العلم ومريديه؛ إذ كان ينزل من بيته في قلعة دمشق إلى بيت أستاذه تاج الدين الكندي ليأخذ عنه كتاب سيبويه وشرحه للسيرافي، والحجة في القراءات لأبي علي الفارسي، والحماسة لأبي تمام ([15])، إضافة لما تم ذكره من قوله الشعر، وإلى براعته في الفقه على مذهب أبي حنيفة واهتمامه وتشجيعه للعلماء.

وهذه السيرة تفضي إلى أنه قد امتلك مكتبة ترجمت عشقه للمعرفة، وأكد هذه الحقيقة ياقوت الحموي فقال عند ترجمته لمحمد بن أحمد بن محمد أبي سعد العميدي، الأديب، النحوي، اللغوي المصنف (ت433هـ/1042م): رأيت كتابه (تنقيح البلاغة) في عشر مجلدات في خزانة الملك المعظم في دمشق ([16]).

وقد وقفت على نسخة كتاب الحجة لأبي على الفارسي المقروء على أبي اليمن الكندي، وهي نسخة نفيسة بخط ابن غلبون، محفوظة في مكتبة مراد ملا بإستانبول، وهي من مجموعة محمد بن محمد بن محمد بن السابق الحنفي الذي تحدثت عنه وعن تملكاته.

 

المبحث الثالث: هجرة المجموعة كاملة عن موقعها التي كانت تعيش فيه.

فقد رحلت مكتبات كاملة وتغيرت جغرافيتها القديمة، كحال من هاجر بكتبه كاملة لأمر حدث له.

أو هُجِّرَت المكتبة بعد وفاة صاحبها ثم انتقلت بأكملها إما لمكان واحد (كالرفاعية كاملة إلى ليبزك)

وإما لأماكن مختلفة متفرقة (كمكتبة السادة الوفائية بالقاهرة).

وقد حدث هذا في العراق كثيراً، كذلك في المغرب بيعت مكتبات كاملة[1] بكل ما فيها أو متفرقة إلى السعودية وقطر وغيرها، وهذه مأساة مزعجة لعدم وجود جهات قوية ترتب لهذا الأمر وتشتري من أصحاب الميراث هذا الإرث الذي عاش صاحبه نصف قرن فأكثر يجمع فيه ويكتب عليه، فهذه الأوراق يوجد بها أفضل ما أنتجه العقل البشري كلٌ ينتصر لمنهجه ومذهبه بما يكتب، ولكنه يخرج أشرف ما في عقله لذلك.

وقد أخذت السفارات الأوروبية كثيرا من بلاد المسلمين، ولما زرت مكتبة الإمبروزيانا في إيطاليا، حكى لي بعض القائمين على المكتبة أن رجلاً سياسيا كان باليمن، وقد فتح حانوتاً للبقالة وكان يشتري من الفقراء الكتب مقابل السكر والشاي والأرز وسائر الطعام والشراب، وقد جمعوا بتلك الطريقة وغيرها قرابة الثلاثة آلاف مجلد، وانتهوا من فهرستها في أربع مجلدات.

وقد شاهدت كثيراً من هذا في أوروبا وموريتانيا، وإيران، ومالي وغيرها.

المبحث الرابع: نموذج مشرف

هذه نسخة من سنن أبي داود بخط الملك المحسن علي الأغلب، صاحب المكتبة الآنفة الذكر

هذه النُّسخة مِن أَنْفَسِ نُسَخِ كُتُبِ السُّنَّةِ عِنايَةً وضَبْطًا، وناسِخُها غيرُ مُسَمًّى، ولكنَّ أغلبَ الظَّنِّ أنَّه المَلِكُ المُحسن أحمد ابن صَلاح الدِّين الأيُّوبِيّ، وقد ذَكَر ابن حَجَر في نُسخته الَّتي بخَطِّه أنَّ هذه النُّسخةَ بخَطِّ المَلِك المُحسن، وهي غايةٌ في الضَّبْطِ والرَّسْمِ، ولمَ لا تكون كذلك، وقد قَرَأَها أكثرُ من أربعين عالِمًا، وقُرئتْ في أكثر من ثلاثين مَدرسةً ومسجدًا، وغير ذلك؟!

وهذه النُّسخة عُورضتْ بأَصْلِ نُسخةِ الخطيبِ البَغداديّ، وأَصْلُ الخطيبِ -كما أشرتُ قبل ذلك- نُسِخَ أوَّلًا من نُسخةٍ بِروايةِ أبي الحَسن ابن العَبْد، ثُمَّ قابَلَها على رِواية اللُّؤلؤيّ أثناءَ قِراءَتِه لها على أبي عُمر الهاشِمِيّ.

ولم يُذكر تاريخُ نَسْخِها للتَّلْفِيق الَّذي وَقَع في كتابتِها، إلَّا أنَّ المَجْزُومَ به أنَّها نُسختْ أوائل القرنِ السَّابِعِ؛ فتارِيخُ الفَراغِ من قِراءَةِ الجُزءِ الأوَّلِ -من أَصْلِ اثنين وثلاثين جزءًا- كان يوم الأحد، 20 جمادى الآخِرة، سنة 603هـ.

وكُتبتْ هذه النُّسخة في دِمَشق، وقد اسْتَقْدَم المَلِكُ المُحسنُ ابنَ طَبَرْزَد من بَغداد إلى دِمَشق ليَقْرَأ عليه «السُّنن» فيها، فقُرئتْ عليه بدار المَلِك المُحسن، كما قُرئتْ بجامِع الكلَّاسَة، ومتنزَّهات غُوطة دِمَشق.

ومَنزل بَهاء الدِّين ابن عَلاء الدِّين، بجامع حُسين حكر.

وحانُوت العُدُول، من مَيدان القَمْح.

وسُويقة الصَّاحب، بالقاهِرَة.

والمَدرسة الشَّمسيَّة الفارَقانِيَّة، بالقاهِرَة.

والمَدرسة السَّيفيَّة المنكوزيَّة، بالقاهِرَة.

والمَدرسة الصَّاحبيَّة البَهائيَّة.

والمَدرسة الطَّيبرسيَّة.

والجامِع الأَزْهَر.

ومَدرسة قرا سُنقر.

وجامع أَمِير حُسين، بحكر ظاهِر القاهِرَة.

وجامع ابن المَرْجانِيّ، بالمِزَّة، بدِمَشق.

والمَدرسة الصَّالحيَّة النَّجْمِيَّة.

وبَدَأ التَّنَقُّل بعدما قُرئ الجُزء الأوَّل، بتاريخ: يوم الأحد، 20 من جمادى الآخرة، سنة 603هـ.

والجُزء الأخيرُ الثَّانِي والثَّلاثون قُرئ بتاريخ: يوم الجمعة، بعد الصَّلاة، في الثَّانِي من شهر رَمَضان، سنة 604هـ.

وفي سنة أربع وعشرين وسِتِّمِائة انتقلتِ النُّسخة إلى حَلَب؛ لتُقْرَأ على الشَّيخ الإمامِ جَمال الدِّين مُفتي الفِرَق أبي عبد الله محمَّد بن عبد الرَّحمن بن عبد الله بن عُلْوان الأَسَدِيّ، برِوايتِه عن ابن طَبَرْزَد، بمَدرسة ابن رَواحَة من حَلَب، في رَجَب من تلك السَّنة.

وجَمال الدِّين ابن عُلْوان من أُسْرَة عِلميَّةٍ معروفةٍ بحَلَب، فأخُوه عبد الله كان قد وَصَّى المَلِك المُحسن بالصَّلاة عليه، وشَيخ مَدرسة ابن رَواحة، ومَوقع هذه المَدرسةِ في المكانِ المَعروف الآن([2]) بحَلَب: زُقاق الزَّهْراوِيّ، شَماليَّ ما يُعرف الآن أيضًا بـ«المكتبة الوقفيَّة»، والَّتي كانت تُعرف سابقًا بـ«دار الحديث الشَّرَفيَّة»، مقرِّ الإمام سِبْط ابن العَجَمِيّ.

واستمرتِ النُّسخةُ في حَلَب إلى سنة 655هـ، كما نجدُه في سَماعٍ طويلٍ (135/أ): «كَتَبَه أحمد بن عبد المُنعم بن أبي غانِم الحَلَبِيّ -عَفا الله عنه-».

وفي السَّامعين أئمَّةٌ وأبناءُ أئمَّةٍ.

وكان الشَّيخُ المُسْمعُ لهم طغريل بن عبد الله المُحْسِنِيّ من مَوالِي المَلِك المُحسن، ويُذكر الحافِظُ يُوسُف بن خَلِيل كثيرًا في طِباقِ السَّماعِ، ويَكتب طِباقَ السَّماع أحيانًا، وقد ألحقتُ صُوَرًا بذلك.

كما سمع بعضَ «السُّنن» على طغريل هذا شَرَفُ الدين ابن عَشائِر الحَلَبِيّ (بعد 640-732)([3]).

ثُمَّ انتقلتِ النُّسخةُ إلى القاهرةِ بمِصْر، ففي (232/أ) طَبَقَة سَماعِ الشَّيخِ فيها هو النَّجيب عبد اللَّطيف الحَرَّانِيّ، والقارِئ فيها خَلِيل بن بَدْران بن خَلِيل الحَلَبِيّ، وطَبَقَة السَّماعِ بخَطِّه «مستهلّ شهر رَجَب الأَصَمِّ، من سنة سبعين وسِتِّمِائة».

وفي (13ق/ب): نَجِد سَماعًا على ابن خطيبِ المِزَّةِ عبد الرَّحيم بن يُوسُف بن يَحيى «بالجامِعِ الأَزْهَرِ بالقاهِرَةِ المُعِزِّيَّة… سنة سِتٍّ وسبعين وسِتِّمِائة، كَتَبَه أبو بَكر بن عليّ بن عبد الخالِق».

وفي وَرَقَة (121ب): سَماعٌ طويلٌ آخَرُ: «.. يوم الأحد، السَّادس عشر من شهر المحرَّم، سنة ثلاث عشرة وسَبعمِائة، بالقاهِرَة المُعِزِّيَّة، بالجامِعِ الأَزْهَر».

بل استقرتِ النُّسخةُ في مِصر إلى 20 من ذي القعدة، سنة 721هـ؛ إذ قُرئتْ «بالجامِعِ النَّاصِرِيّ، بمِصْر المَحروسةِ».

وفي هذا التَّاريخ كان يقرَؤُها أحمد بن محمَّد بن إبراهيم الأذْرَعِيّ (ت741هـ).

بل إلى ما بعد ذلك؛ حيثُ قَرَأَها بعضُ الأئمَّةِ الحُفَّاظِ المِصرِيِّين، مثلِ: أبي الفَتْح السُّبكيّ (ت744هـ)، والجَمال الزَّيْلَعِيّ (ت762هـ). ولعلَّ قِراءَةَ ابنِ رافعٍ السَّلامِيّ (ت774هـ) لها كانت في هذه المدَّة.

وبعد ذلك تظهرُ من جديدٍ في دِمَشق، لِتُقرأ على ابن أَمِيلَة «المَراغِيّ الحَلَبِيّ المِزِّيّ، بسَماعِه لجميعِ «السُّنن» على… ابن البُخارِيّ، بسَماعِه لجميعِه من أبي حَفْص عُمر ابن طَبَرْزَد… في يوم الاثنين، مستهلّ ذي القعدة الحَرام، سنة سِتٍّ وسبعين وسَبعمِائة، بجامِع المَرْجانِيّ، بالمِزَّة الفَوْقانِيَّة، ظاهِر دِمَشق المحروسةِ»، وكأنَّ إمامَ جامعِ الأَقْمَرِ حَمَلَها معه ومع مَن رَحَلَ معه إلى دِمَشق، حيثُ كان حاضِرًا للسَّماعِ على ابن أَمِيلَة.

ثُمَّ تَعُودُ ثانيةً إلى القاهِرَةِ، ليَقْرَأَها الأئمَّةُ: السِّراجُ البُلْقِينِيّ (ت805هـ)، وزَيْن الدِّين العِراقِيّ (ت806هـ) لنَفْسِه على العُرْضِيّ وابن أَمِيلَة، وبقِراءَةِ غيرِه، وقَرَأَها أحمد الكَلْوَتاتِيّ وغيرُه مِرارًا، وابن حَجَر (ت852هـ) عدَّة مرَّاتٍ: قارئًا، ومَقْرُوءًا عليه، والبِقاعِيّ (ت885هـ) قارِئًا لها سنة 845هـ على ابن بَرْدِس (ت846هـ)، والكَلْوَتاتِيّ أحمد بن عُثمان (ت835هـ)، قرأها لنفسِه، وعلى العِراقِيّ، ومحمَّد بن أحمد بن محمَّد التِّزْمَنْتِيّ، واسْتَخْرَج مع قِراءَتِه رُباعِيَّات أبي داوُد، وكان يَضَعُ غالبًا بجانِبِ كلِّ حديثٍ رُباعِيِّ الإسنادِ دائِرَةً.

وقَرَأَها محمَّد المُظَفَّرِيّ على خاتمةِ المُسندِين عبد الحَقِّ بن محمَّد السُّنْباطي (ت931هـ)، وهو مِصريٌّ، إلا أنَّه جاوَرَ السَّنَةَ الأخيرةَ من حياتِه بمكَّة، وتُوفِّي فيها.

وبعد ذلك انتقلتِ النُّسخة إلى والِدِ الشَّيخِ عبد الله بن سالِم البَصْرِيّ في مكَّة، ثُمَّ انتقلتْ إلى الإِحْساءِ عند الشَّيخ محمَّد بن عبد القادِر قاضِي المُبرَّز، وهو أَهْداها إلى الشَّيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشَّيخ، وبعد ذلك أَهْداها الشَّيخ محمَّد بن إبراهيم إلى «المكتبة العامة»، بالرِّياض، والَّتي كانت تُسمَّى: «مكتبة الإفتاء»، والَّتي ضُمَّتِ الآن إلى «مكتبةِ المَلِك فَهْد الوطنيَّة»، بالرِّياض، وصوَّرتُ منها نُسخةً رقميَّةً ملوَّنةً من هناك، وهي برقم: (194/86)، وكانت موجودةً من قبل، لكنها «ميكروفيلميَّة».

وقد كتبتُ أثناءَ قِراءَةِ هذه النُّسخةِ واسْتِخْراجِ سماعاتِها أكثرَ من مائةً وثلاثين وَرَقَةً، ولن أُطيل بذِكْر مَن قَرَأَها أو قُرئتْ عليه، وسيأتِي بعضُ ذلك في التَّعليق على النَّماذج.

وسَنَدُ هذه النُّسخةِ من طريقِ المَلِكِ المُحسن أحمد بن يُوسُف بن أيُّوب بن شادِي الأَيُّوبِيّ، عن أبي حَفص ابن طَبَرْزَد، عن أبي الفَتْح الدُّومِيّ وأبي البَدْر الكَرْخِيّ عن الخطيبِ البَغداديّ، عن أبي عُمر الهاشِمِيّ، عن أبي عليّ اللُّؤلؤيّ، عن أبي داوُد السِّجِسْتانِيّ -رحم اللهُ الجميعَ-.

وبعد هذه الرحلة الممتعة، بصحبة هذه النوادر والنفائس، أقول إن دراسة المخطوط، وفهرسته، لم تعد فقط ذكر اسم المؤلف والعنوان وأوله وآخره، وبياناته المادية، ولكن دراسة النسخ أصبح في بيئة خصبة للدراسة من جوانب كثيرة، ونحن بفضل الله وتوفيقه وعونه في مؤسسة علم لإحياء التراث والخدمات الرقمية نسعى لذلك بكل جهدنا، ونسأل الله التوفيق والسداد، ونرحب بالتعاون المثمر بين الجهات والأشخاص، واقتصرت في هذا البحث على نماذج قليل ، ولا زا ل بفضل الله لدينا الكثير من الأفكار والنماذج لمشاريع مختلفة نعمل عليها، ونسأله سبحانه الثبات ودوام التوفيق، والإخلاص والقبول لنا وللجميع.