جغرافيا المخطوط العربي (1) إعداد / عبد العاطي محيي الشرقاوي ( أبو يعقوب الأزهري )
رئيس مجلس إدارة مؤسسة علم لإحياء التراث و الخدمات الرقمية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وبعد:
فهذا بحث لمحاضرة بعنوان”جغرافيا المخطوط العربي“،
فأقول مستعينا بالله سبحانه ملتمساً منه جل وعلا التوفيق والسداد، وراجياً منه سبحانه وتعالى الإخلاص والقبول:
سيكون حديثي حول هذا الموضوع المهم في النقاط التالية:
تمهيد ومدخل: تحرير المصطلح (جغرافيا المخطوط)
الفصل الأول: فائدة معرفة جغرافيا المخطوط وصور ذلك، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: فوائد معرفة جغرافيا المخطوط.
المبحث الثاني: صور تنقل المخطوط جغرافياً.
الفصل الثاني: رحلة المخطوطات جغرافيا إلى أنحاء العالم (المجموعات القديمة وأين آل أمرها) وفيه مباحث:
المبحث الأول: صُور من رحلة المجموعة الواحدة لعدد من بلدان العالم.
المبحث الثاني: صور من رحلة المخطوطات(المجموعة) التي تملكها عالم وكانت تحت يده يوماً ما، ثم تفرقت.
المبحث الثالث: صور من رحلة المخطوطات(المجموعة) التي كتبها عالم واحد، ثم تفرقت في مدن مختلفة.
المبحث الرابع: هجرة المجموعة كاملة عن موقعها التي كانت تعيش فيه.
المبحث الخامس: نموذج مشرف
تمهيد ومدخل: تحرير المصطلح (جغرافيا المخطوط)
وبداية أُعَرِّفُ الجغرافيا عموماً ثم أبين المراد بجغرافيا المخطوط
تعريف مصطلح الجغرافيا:
قال طاش كبرى زادة في مفتاح السعادة:” وهو: علم يتعرف منه أحوال الأقاليم السبعة الواقعة في الربع المسكون من كرة الأرض، وعروض البلدان الواقعة فيها وأطوالها، وعدد مدنها، وجبالها، وبراريها، وبحارها وأنهارها، إلى غير ذلك من أحوال الربع، ولبطليموس تأليفات كثيرة في هذا العلم نافعة جداً”
وقال حاجي خليفة رحمه الله ” علم جغرافيا وهي: كلمة يونانية بمعنى: صورة الأرض.
ويقال: جغرافيا بالواو على الأصل…. قال الشيخ داود في تذكرته: جغرافيا: علم بأحوال الأرض من حيث تقسيمها إلى الأقاليم، والجبال، والأنهار، وما يختلف حال السكان باختلافه. انتهى وهو الصواب لشموله على غير السبعة.
والجغرافيا: علم لم ينقل له في العربية لفظ مخصوص.
وأول من صنف فيه بطليموس القلوذي، فإنه صنف كتابه المعروف بـ(جغرافيا) أيضا بعدما صنف المجسطي، وذكر: أن عدد المدن أربعة آلاف وخمسمائة وثلاثون مدينة في عصره.
وسماها: (مدينة مدينة) ….”
وقد صنفت مصنفات باسم الجغرافيا قديماً، ولعل أقدمها كتاب “جغرافيا جزيرة العرب” لصاحبه أحمد بن الفقيه الهمذاني
أولاً: تحرير المصطلح: –
والمراد بهذا المصطلح”جغرافيا المخطوطات”: هو مواقع المكتبات والمجموعات الشخصية والعامة في القديم والحديث وإلى أين آل أمرها وأين موقعها على خريطة العالم.
وهذا له علاقة من وجه بما ذكره الدكتور فرنسوا ديروش:” إن أحد مهام علم المخطوطات (الكوديكولوجيا)، إلى جانب تحليل الظروف المادية التي تحيط إنتاج الكتاب المخطوط، هي عمل تاريخ المجموعات وأرصدة المكتبات، أي: تجميع معطيات عن تداول المؤلفات منذ عصر صناعتها، وإعادة بناء سلسلة مالكي مخطوط أو مجموعة من المخطوطات قدر الطاقة، وتوخي الأماكن التي جاءت منها المجلدات أو استقرت فيها، ولا تخرج المخطوطات الشرقية، وعلى الأخص العربية والفارسية والتركية، الموجودة في المكتبات والمجموعات العامة والخاصة المحفوظة سواء في الشرق أو في الغرب، عن هذه الإشكالية.
وحيثما وُجد الإسلام ووجد المسلمون وفيهم علماء، وجدت جغرافية لهذا التراث العربي الإسلامي، ولكنها للأسف متغيرةٌ باستمرار، فكما أن حدود الدول وجغرافياتها تتغير في الحديث عن القديم كذلك جغرافيا المخطوط متغيرة وليست ثابتة، ولم يكن العَالَمُ الإسلامي دولاً بل كانت خلافةً، وما وجدت الدول والحدود السياسية إلا مؤخراً بعد الحروب العالمية التي غيرت جغرافيا العالم، وكذلك المخطوطات لا تنتمي للدول بقدر ما تنتمي للمدن، فهذا ابن الجوزي ينسخ في بغداد وغيرها، وكذا السبط ابن العجمي ينسخ في حلب وغيرها، وكذلك مكتبات المدارس والخانقاوات وغيرها، كانت بالمدن، وهكذا، وكما أن بعض المدن قد مُحيت وزالت بفعل المجرمين والظالمين، فقد تعرضت مدن كثيرة للدمار كما حدث لحلب أثناء حروب سيف الدولة مع البيزنطيين حين تمكن نقفور فوكاس من أن يحتلها ويخربها عام (325هـ) ثم أتاها ما أتاها من دمار على يد هولاكو المغولي، ثم أتاها ما أتاها على يد المغولي الثاني تيمورلنك (803هـ)، وكذلك وقع في كثير من مدن العالم وكذا فعله الصليبيون في ثمان حملات، ودمروا الكثير من المكتبات في طرابلس الشام كـ(مكتبة بني عمَّار) وكثيراً من خزائن المدن الشامية (كخزانة الأمير أسامة بن منقذ)، وكذلك من خزائن المسجد الأقصى هذا في القرن السادس والسابع، وفي منتصف القرن السابع اجتاح المغول بغداد وفعلوا ما فعلوا، ومع نهاية القرن التاسع حدث ما حدث من فاجعة بلاد الأندلس في قرطبة وغرناطة وغيرهما من مدن الأندلس، وبعد ذلك رفع الله الغمة عن المسلمين بمعركة حطين، وعين جالوت، ثم بنيت وعمرت هذه المدن من جديد، ومعها عُمرت المكتبات وعادت الحالة العلمية كما كانت بل وأفضل، ولكن ينبغي التنبيه إلى أن الحركة العلمية من التدريس والنسخ والكتابة وانتقال المخطوطات، لم تتوقف حتى أثناء الحصار والغزو والمعارك، وما سطره ابن الجزري رحمه الله بآخر كتابه الحصن الحصين شاهدٌ على ذلك.
كل هذه الفوائد التاريخية، والعلمية المختلفة تلتقط من بين سطور هذه النسخ النفيسة لمعرفة تنقل المخطوطات جغرافيا، ومعرفة نفسية المتنقل، ونفسية الكاتب، وأمور كثيرة لا توجد في كتاب غالباً لأنها كانت وليدة هذه اللحظة، وقد جمعت جمعاً جيداً في هذا الباب، لبعض العلماء، فوجدت خطوطهم متقلبة على حسب أحوالهم، وليس المقام مقام تفصيل في هذا، والله المستعان.
وهذه النسخة قرأت على المؤلف بقبة السلطان المعظم، عند قبة الصخرة بالمسجد الأقصى، وكان هذا بعد تأليفه للكتاب بست سنوات.
المبحث الأول: فوائد معرفة جغرافيا المخطوط.
- إعادة المجموعات القديمة، سواء كانت مكتبات خلفاء، أو وزراء، أو علماء، أو مدارس، أو أربطة، أو مساجد، أو زوايا، أو تُرَب، كخزانة الحكم المستنصر، كمكتبة الفاطميين بالقاهرة، ومكتبة الوزير الكبير مؤيد الدين ابن العلقمي الشيعي (656هـ)، ومكتبة ابن الملقن، ومكتبة شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، ومكتبة محمد المظفري، والإمام العيني، ومحمد بن محمد بن محمد بن السابق الحنفي، وأبي بكر بن رستم الشرواني، وغيرهم الكثير، كما سيأتي.
- عند ذكر عالم لنسخة من كتاب نقل منه، وذكر أن هذا الكتاب كان بمكتبة معينة من مكتبات المدارس أو من مكتبات العلماء فسبيل هذا معرفة مظان وجود هذه المجموعة في العالم.
- ما كتب في مدرسة من المدارس وأوقف عليها وعليه تعليقات لمن قريء عليه الكتاب، وأمثلته كثيرة وفوائده لا تحصى.
- ما نسخه عالم واحد لكتاب واحد سواء من مؤلفاته أو من منسوخاته، كنهاية الأرب للنويري بخطه توزعت في خمس مكتبات، وجامع الأصول لابن الأثير بخطه، وفتح الباري نسخة ابن الأخصاصي، ومعجم شيوخ الدمياطي بخطه، والإصابة لابن حجر بخط السخاوي، وغير ذلك الكثير، ولا سبيل إلى معرفة مظان ذلك إلا بتتبع جغرافيا المخطوط.
- جمع ما نسخه ناسخ واحد ومعرفة تفرقه في مكتبات العالم، من السبل إلى ذلك معرفة مظان جغرافيا المخطوط.
- جمع ما تملكه متملك واحد ويزداد أهميةً إذا كان هذا المتملك عالماً فإننا نتعرف على شخصية هذا العالم من خلال نسخه التي يقتنيها، ومن خلال نوعيات الكتب، فهذا الصفدي يتملك كتاباً في الطب، وهذا أسعد المدرس بدار الحديث يتملك كتاب في الهندسة وهو مساحة الدائرة لأرشميدس (شهيد علي 3414)، وهذا الإمام مغلطاي يقتني نوادر الكتب والنسخ حتى أنه بلغت عنده نسخ سنن أبي داود من رواية ابن العبد فقط إلى أربع نسخ، عدا بقية الروايات.
- معرفة ما سرق ونهب من المكتبات الموقوفة، كالأزهر الشريف فقد وجد الكثير منها في فرنسا، والسعودية، وتركيا وغيرها وما هو ناقص في الدفاتر العثمانية القديمة وجد بعضه في أمريكا وغيرها (كشهيد علي باشا)، من السبل إلى ذلك معرفة جغرافيا المخطوط
- معرفة رحلة العالم الواحد، وممن سمع، وعلى من قرأ، من خلال سماعاته على المخطوطات المتفرقة في مكتبات العالم، من السبل إلى ذلك معرفة جغرافيا المخطوط، كما هو الحال في مجموع الإمام الحافظ ابن ناصر الدين الذي كتبه الحافظ جار الله ابن فهد رحمهم الله، وقد كتبه في دمشق أثناء رحلته إلى مصر، فقد تبين لنا على من قرأ ومع من قرأ وفي بيت من قرأ وأين كان يحب أن ينسخ، إنه تاريخ مجهول لا يوجد في كتاب، ولكن يستخرج من بين الأسطر، ومفرق في مكتبات العالم، وأعظم طريق إلى معرفته هو معرفة جغرافيا المخطوط.
- معرفة تنقل المكتبات-وهو جزء لا يتجزأ من جغرافيا توزيع المخطوطات والمكتبات-فمثلا كان الأمير العالم صديق حسن خان رحمه الله يرسل في شراء النسخ النوادر من اليمن، فوقع له عدد من مؤلفات الشوكاني والصنعاني التي بخطوطهما، وكانت في مكتبته الخاصة، ثم بعد ذلك آلت إلى مكتبة الشبلي النعماني ثم آلت إلى مكتبة ندوة العلماء بالهند، وكذا مكتبة الإمام أبي الحسنات عبد الحي اللكنوي توجد مكتبته كاملة في مكتبة جامعة عليكره بالهند كذلك… وهلم جرا.
- ومن فوائد معرفة جعرافيا المخطوط أن تكون المكتبة لعالم أو باحث ثم يوقفها على مكتبة بعينها في مدينته أو خارجها، وضربنا مثلا بذلك بندوة العلماء ونضيف عليه مكتبة د/ داود الجلبي في الموصل كان بها نسخة نفيسة من كتاب دفع مضار الأغذية (منافع الأغذية ودفع مضارها) تأليف أبي بكر محمد بن زكريا الرازي(ت 313هـ)، وتاريخ نسخها (سنة 403هـ) فمن عرف مآل مكتبة الدكتور المذكور سيجد المخطوط المذكور فيه، وقد أهديت مجموعة الدكتور داود الجلبي إلى مكتبة الأوقاف العامة بالموصل، وهذا المخطوط هو أقدم مخطوط بالموصل حرسها الله وبلاد المسلمين
- كذلك ما يحكيه الرحالة من مشاهدات للمكتبات، والنسخ عند العلماء في البلدان المختلفة، وقد وقع هذا لعدد من العلماء، وهذا كثيرٌ ويحضرني ماذكره سيدي عبد الحي الكتاني رحمة الله عليه، من أنه رأي مكتبة طوير الجنة وكانت بيتاً مملوءا بالكتب، وما حكاه وشاهده من نوادر في جنبات الأرض، وكتابه تاريخ الكتب والمكتبات شاهد جليل على ذلك.
وكل فائدة من الفوائد السابقة تحتاج لمحاضرة بل لندوة بل لكتاب، ولدي ملفات مفتوحة في كل ما ذكرت، ومؤسسة (عِلْم لإحياء التراث والخدمات الرقمية) تسعى لتطوير هذا الجانب من الدراسات.
وكم من فرحة يجدها المحب عندما يقف على نسخة نفيسة وصفها أحد العلماء من مئات السنين، وهو يكحل عينه بها الآن، إنها لذة لايعرفها إلا من ذاقها، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والله المستعان.
***
المبحث الثاني: صور تنقل المخطوط جغرافياً.
وتنقل المخطوط من موقعه الجغرافي الذي كُتِبَ فيه له صور من أهمها:
- إما أن يكون كُتِب في حانوت الورَّاقين وبيع وانتقل لمدينة أخرى، وهذا كثير كحال دور النشر اليوم، وهناك الكثير منها غير مقابل وغير دقيق، وغير متقن.
- أو حمله أحد العلماء في رحلته وسمعه في مدينة ورجع به، كما فعل الإمام الشهيد أبو علي الصفدي رحمه الله في نسخته من صحيح البخاري، والخطيب، وكالحافظ ابن حجر في نسخة سنن أبي داود التي كتبها في رحلته لليمن-زبيد ـ وعمره سبع وعشرون سنة، وكتب على هوامشها بقية الروايات، ولما رجع إلى القاهرة قرأها على البلقيني وعلى الزين العراقي وجماعة، وظلت في ملكه حتى مات رحمهم الله جميعاً، وهي الآن في إسطنبول (كوبريلي).
- أو حمله أحد العلماء ورحل به ولم يرجع به، كما فعل قضاة مصر فقد نقلوا الكثير من مخطوطات القاهرة إلى إسطنبول، وماتوا وتركت هناك، وللأسف كثير منها كان موقوفاً.
- أو مات العالم فبيعت مكتبته وتفرقت، واشتراها غيره في بلده أو بلد أخرى
- أو سرق المخطوط وانتقل إلى مكان جديد كحال المخطوطات المنهوبة قديما من القنصليات الغير إسلامية في بلدان المسلمين، أو في الاحتلال والاستعمار
ما الذي يحدث للمخطوطات عند الاضطهاد: –
- إما أن تدفن المخطوطات كما حدث في اليمن (كما حدث في أمر المصاحف) والأندلس، والكويت (الشيباني)، وقد يكون الدفن بسبب سوء الحالة المادية للمخطوط فيدفن لأنها تآكل ولم يعد يصلح للقراءة (كما في موريتانيا) وقد شاهدت كثيراً من ذلك.
- وإما أن تنقل وتهاجر إلى موطن آمن، ويكون ذلك بهجرة العالم بكتبه، كما حدث مع كثير من علماء اليمن لما رحلوا إلى الهند وغيرها، وكما حدث مع والد الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي المولد، فقد حمل والده الكثير من المخطوطات معه، والتي حفظت بعد ذلك بالظاهرية، وهناك نماذج كثيرة لذلك، وهو مبحث لطيف.
- وإما أن تحرق وتدمر كما ذكرت آنفاً.
- وإما أن تسرق من قبل المضطهد أو المستعمر أو المحتل أو الذي يملك القوة أو المال، وفي كل ما ذكر أخبار وأسرار، ولها علاقة وطيدة بموضوع البحث وهو جغرافيا المخطوط العربي، ولذا فجغرافيا التراث المخطوط متغيرة، بل إن هناك الكثير يسعي لتغيرها ومحوها من خريطة الحياة العلمية.
يتبع في مقالات قادمة إن شاء الله